فصل: تفسير الآيات (15- 17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (12):

{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)}
قال الحسن: عقر سليمان الخيل أسفاً على ما فوتته من فضل وقت صلاة العصر فأبدله الله تعالى خيراً منها وأسرع الريح تجري بأمره، وقرأ جمهور القراء {الريحَ} بالنصب على معنى ولسليمان سخرنا الريح، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر والأعرج {الريحُ} بالرفع على تقديره تسخرت الريح أو على الابتداء والخبر في المجرور، وذلك على حذف مضاف تقديره ولسليمان تسخير الريح، وقرأ الحسن {ولسليمان تسخير الرياح} وكذلك جمع في كل القرآن، وقوله تعالى: {غدوها شهر ورواحها شهر} قال قتادة معناه أنها كانت تقطع به في الغدو إلى قرب الزوال مسيرة وتقطع به في الرواح من بعد الزوال إلى الغروب مسيرة شهر، فروي عن الحسن البصري أنه قال كان يخرج من الشام من مستقره تدمر التي بنتها له الجن بالصفاح والعمد فيقيل في اصطخر ويروح منها فيبيت في كابل من أرض خراسان ونحو هذا، وكانت الأعصار تقل بساطه وتحمله بعد ذلك الرخاء، وكان هذا البساط من خشب يحمل فيما روي أربعة آلاف فارس وما يشبهها من الرجال والعدد ويتسع بهم، وروي أكثر من هذا بكثير ولكن عدم صحته مع بعد شبهه أوجب اختصاره.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الجيوش أربعة آلاف» وما كان سليمان ليعدو الخير، وقرأ ابن أبي عبلة {غدوتها شهر وروحتها شهر} وكان إذا أراد قوماً لم يشعروا به حتى يظلمهم في جو السماء، وقوله تعالى: {وأسلنا له عين القطر}، روي عن ابن عباس وقتادة أنه كانت تسيل له باليمن عين جارية من نحاس يصنع له منها جميع ما أحب، و{القطر}: النحاس، وقالت فرقة {القطر} الفلز كله النحاس والحديد وما جرى مجراه، كان يسيل له منه عيون، وقالت فرقة بل معنى {أسلنا له عين القطر} أذبنا له النحاس عن نحو ما كان الحديد يلين لداود، قالوا وكانت الأعمال تتأتى منه لسليمان وهو بارد دون نار، و{عين} على هذا التأويل بمعنى الذات، وقالوا لم يلن النحاس ولاذاب لأحد قبله، وقوله: {من يعمل} يحتمل أن {من} تكون في موضع نصب على الاتباع لما تقدم بإضمار فعل تقديره وسخرنا من الجن من يعمل، ويحتمل أن تكون في موضع رفع على الابتداء والخبر في المجرور، و{يزغ} معناه يمل أي ينحرف عاصياً، وقال {عن أمرنا} يقل عن إرادتنا لأنه لا يقع في العالم شيء يخالف الإرادة، ويقع ما يخالف الأمر، قال الضحاك وفي مصحف عبد الله {ومن يزغ عن أمرنا} بغير {منهم}، وقوله تعالى: {من عذاب السعير} قيل عذاب الآخرة، وقيل بل كان قد وكل بهم ملك وبيده سوط من نار السعير، فمن عصى ضربه فأحرقه به.

.تفسير الآية رقم (13):

{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)}
المحاريب الأبنية العالية الشريفة، قال قتادة القصور والمساجد، وقال ابن زيد المساكن، والمحراب أشرف موضع في البيت، والمحراب موضع العبادة أشرف ما يكون منه، وغلب عرف الاستعمال في موضع وقوف الإمام لشرفه ومن هذه اللفظة قول عدي بن زيد: [الخفيف]
كدمى العاج في المحاريب أو كال ** بيض في الروض زهره مستنير

والتماثيل قيل كانت من زجاج ونحاس، تماثيل أشياء ليست بحيوان، وقال الضحاك كانت تماثيل حيوان، وكان هذا من الجائز في ذلك الشرع.
قال القاضي أبو محمد: ونسخ بشرع محمد صلى الله عليه وسلم، وقال قوم: حرم التصوير لأن الصور كانت تعبد، وحكى مكي في الهداية أن فرقة كانت تجوز التصوير وتحتج بهذه الآية وذلك خطأ، وما أحفظ من أئمة العلم من يجوزه، والجوابي جمع جابية وهي البركة التي يجبى إليها الماء الذي يجمع قال الراجز: [الرجز]
فصحبت جابية صهارجا ** كأنه جلد السماء خارجا

وقال مجاهد: الجوابي جمع جوبة وهي الحفرة العظيمة في الأرض.
قال الفقيه الإمام القاضي: ومنه قول الأعشى: [الطويل]
نفى الذم عن آل المحلق جفنة ** كجابية الشيخ العراقيّ تفهق

وأنشده الطبري: تروح على آل المحلق، ويروى السيح بالسين غير نقط، وبالحاء غير نقط أيضاً، وهو الماء الجاري على وجه الأرض، ويروى الشين والخاء منقوطين، فيقال أراد كسرى ويقال أراد شيخاً من فلاحي سواد العراق غير معين وذلك أنه لضعفه يدخر الماء في جابيته، فهي تفهق أبداً فشبهت الجفنة بها لعظمها، قال مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد الجوابي الحياض، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي {كالجواب} بغير ياء في الوصل والوقف، وقرأ أبو عمرو وعيسى بغير ياء في الوقف وياء في الوصل، وقرأ ابن كثير بياء فيهما، ووجه حذف الياء التخفيف والإيجاز، وهذا كحذفهم ذلك من القاض والغاز والهاد، وأيضاً فلما كانت الألف واللام تعاقب التنوين وكانت الياء تحذف مع التنوين وجب أن تحذف مع ما عاقبه كما يعملون للشيء أبداً عمل نقيضه، و{راسيات} معناه ثابتات لكبرها ليست مما ينقل ولا يحمل. ولا يستطيع على عمله إلا الجن وبالثبوت فسرها الناس، ثم أمروا مع هذه النعم بأن يعملوا بالطاعات، وقوله تعالى: {شكراً} يحتمل أن يكون نصبه على الحال، أي اعملوا بالطاعات في حال شكر منكم لله على هذه النعم، ويحتمل أن يكون نصبه على جهة المفعول، أي اعملوا عملاً هو الشكر كأن الصلاة والصيام والعبادات كلها هي نفسها الشكر إذ سدت مسده، وفي الحديث إن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فتلا هذه الآية ثم قال: «ثلاث من أوتيهن فقد أوتي العمل شكراً العدل في الغضب والرضى والقصد في الفقر والغنى وخشية الله في السر والعلانية»، وروي أن داود عليه السلام قال يا رب كيف أطيق شكرك على نعمك وإلهامي وقدرتي على شكرك نعمة لك، فقال: يا داود الآن عرفتني حق معرفتي، وقال ثابت: روي أن مصلى داود لم يخل قط من قائم يصلي ليلاً ونهاراً كانوا يتناوبونه دائماً، وكان سليمان عليه السلام فيما روي يأكل خبز الشعير وطعم أهله الخشكار ويطعم المساكين الدرمك، وروي أنه ما شبع قط فقيل له في ذلك فقال: أخاف أن أنسى الجياع، وقوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} يحتمل أن تكون مخاطبة لآل داود، ويحتمل أن تكون مخاطبة لآل محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى كل وجه ففيها تنبيه وتحريض، وسع عمر بن الخطاب رجلاً يقول: اللهم اجعلني من القليل، فقال له عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: أردت قوله عز وجل: {وقليل من عبادي الشكور}، فقال عمر رحمه الله: كل الناس أعلم من عمر.
قال الفقيه الإمام القاضي: وقد قال تعالى: {وقليل ما هم} [ص: 24]، والقلة أيضاً بمعنى الخمور منحة من الله تعالى، فلهذا الدعاء محاسن.

.تفسير الآية رقم (14):

{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)}
الضمير في {عليه} عائد على سليمان، و{قضينا} بمعنى أنفذنا وأخرجناه إلى حيز الوجود وإلا فالقضاء الآخر به متقدم في الأزل، وروي عن ابن عباس وابن مسعود في قصص هذه الآية أن سليمان عليه السلام كان يتعبد في بيت المقدس وكان ينبت في محرابه كل سنة شجرة فكان يسألها عن منافعها ومضارها وسائر شأنها فتخبره فيأمر بها فتقلع فتصرف في منافعها وتغرس لتتناسل، فلما كان عند موته خرجت شجرة فقال لها ما أنت؟ فقالت: أنا الخروب خرجت لخراب ملكك هذا، فقال سليمان عليه السلام: ما كان الله ليخربه وأنا حي ولكنه لا شك حضور أجلي فاستعد عليه السلام وغرسها وصنع منها عصا لنفسه وجد في عبادته، وجاءه بعد ذلك ملك الموت فأخبره أنه قد أمر بقبض روحه وأنه لم يبق له إلا مدة يسيرة، فروي أنه أمر الجن حينئذ فصنعت له قبة من رخام تشف وجعل فيها يتعبد ولم يجعل لها باباً، وتوكأ على عصاه على موضع يتماسك معه وإن مات، ثم توفي صلى الله عليه وسلم على تلك الحالة، وروي أنه استعد في تلك القبة بزاد سنة وكان الجن يتوهمون أنه يتغذى بالليل وكانوا لا يقربون من القبة ولا يدخلون من كوة كانت في أعاليها، ومن رام ذلك منهم احترق قبل الوصول إليها، هذا في المدة التي كان سليمان عليه السلام حياً في القبة، فلما مات بقيت تلك الهيبة على الجن، وروي أن القبة كان لها باب وأن سليمان أوصى بعض أهله بكتمان موته على الجن والإنس وأن يترك على حاله تلك سنة، وكان غرضه في هذه السنة أن تعمل الجن عملاً كان قد بدئ في زمن داود قدر أنه بقي منه عمل سنة، فأحب الفراغ منه، فلما مضى لموته سنة، خر عن عصاه والعصا قد أكلته الأرض، وهي الدودة التي تأكل العود، فرأت الجن انحداره، فتوهمت موته فجاء جسور منهم فقرب فلم يحترق، ثم خطر فعاد ثم قرب أكثر ثم قرب حتى دخل من بعض تلك الكوى فوجد سليمان ميتاً، فأخبر بموته، فنظر ذلك الأكل فقدر أنه منذ سنة، وقال بعض الناس: جعلت الأرضة فأكلت يوماً وليلة ثم قيس ذلك بأكلها في العصا فعلم أنها أكلتها منذ سنة فهكذا كانت دلالة {دابة الأرض} على موته، وللمفسرين في هذه القصص إكثار عمدته ما ذكرته، وقال كثير من المفسرين {دابة الأرض} هي سوسة العود وهي الأرضة، وقرأ ابن عباس والعباس بن المفضل الأرض بفتح الراء جمع أرضة فهذا يقوي ذلك التأويل، وقالت فرقة {دابة الأرض} حيوان من الأرض شأنه أن يأكل العود، وذلك موجود وليس السوسة من دواب الأرض، وقالت فرقة منها أبو حاتم اللغوي {الأرض} هنا مصدر أرضت الأثواب والخشبة إذا أكلتها الأرضة، فكأنه قال دابة الأكل الذي هو بتلك الصورة على جهة التسوس، وفي مصحف عبد الله {الأرض أكلت منسأته}، والمنسأة العصا ومنه قول الشاعر: [البسيط]
إذا دببت على المنساة من هرم ** فقد تباعد عنك اللهو والغزل

وقرأ جماعة من القراء {منساته} بغير همز منها أبو عمرو ونافع، قال أبو عمرو لا أعرف لها اشتقاقاً فأنا لا أهمزها لأنها إن كانت مما يهمز فقد يجوز لي ترك الهمز فيما يهمز، وإن كانت مما لا يهمز فقد احتطت لأنه لا يجوز لي همز ما لا يهمز، وقال غيره أصلها الهمز وهي المنسأة مفتوحة من نسأت الإبل والغنم والناقة إذا سقتها ومنه قول طرفة: [الطويل]
أمون كعيدان الاران نسأتها ** على لاحب كأنه ظهر برجد

ويروى وعنس كألواح وخففت همزتها جملة، وكان القياس أن تخفف بين بين، وقرأ باقي السبعة {منسأته} على الأصل بالهمز، وقرأ حمزة {مَنساته} بفتح الميم وبغير همز، وقرأت فرقة {مسنأْته} بهمزة ساكنة وهذا لا وجه له إلا التخفيف في تسكين المتحرك لغير علة كما قال امرؤ القيس: [السريع]
فاليوم أشرب غير مستحقب ** إثماً من الله ولا واغلِ

وقرأت فرقة {من ساتِه} بفصل من وكسر التاء وهذه تنحو إلى سية القوس لأنه يقال سية وساة، فكأنه قال: {من ساته} ثم سكن الهمزة ومعناها من طرف عصاه أنزل العصا منزلة القوس، وقال بعض الناس: إن سليمان عليه السلام لم يمت إلا في سفر مضطجعاً ولكنه كان في بيت مبني عليه وأكلت الأرضية عتبة الباب حتى خر البيت فعلم موته.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا ضعيف وقرأ الجمهور {تبينت الجنُّ} بإسناد الفعل إليها أي بان أمرها كأنه قال افتضحت الجن أي للإنس، هذا تأويل، ويحتمل أن يكون قوله: {تبينت الجن} بمعنى علمت الجن وتحققت، ويريد {الجن} جمهورهم والفعلة منهم والخدمة ويريد بالضمير في {كانوا} رؤساءهم وكبارهم لأنهم هم الذين يدعون علم الغيب لأتباعهم من الجن والإنس ويوهمونهم ذلك، قاله قتادة، فيتيقن الأتباع أن الرؤساء {لو كانوا} عالمين الغيب {ما لبثوا} و{أن} على التأويل الأول بدل من {الجن} وعلى التأويل الثاني مفعولة محضة، وقرأ يعقوب {تُبينت الجن} على بناء الفعل للمفعول أي تبينتها الناس، و{أن} على هذه القراءة بدل، ويجوز أن تكون في موضع نصب بإسقاط حرف الجر أي بأن على هذه القراءة وعلى التأويل الأول من القراءة الأولى.
قال الفقيه الإمام القاضي: مذهب سيبويه أن {أن} في هذه الآية لا موضع لها من الإعراب وإنما هي مؤذنة بجواب ما تنزل منزلة القسم من الفعل الذي معناه التحقق واليقين، لأن هذه الأفعال التي تبينت وتحققت وعلمت وتيقنت ونحوها تحل محل القسم في قولك: علمت أن لو قام زيد ما قام عمرو، فكأنك قلت والله لو قام زيد ما قام عمرو، فقوله: {ما لبثوا} على هذا القول جواب ما تنزل منزلة القسم لا جواب {لو} وعلى الأقوال الأول جواب {لو} وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه يقرأ {تبينت الجن} أي تبينت الإنس الجن، و{العذاب المهين} هو العمل في تلك السخرة، والمعنى أن الجن لو كانت تعلم الغيب لما خفي عليها موت سليمان، وقد ظهر أنه خفي عليها بدوامها في الخدمة الصعبة وهو ميت، ف {المهين} المذل من الهوان، قال الطبري وفي بعض القراءات {فلما خر تبينت الإنس أن الجن لو كانوا} وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس والضحاك وعلي بن الحسين وذكر أبو حاتم أنها كذلك في مصحف ابن مسعود. قال القاضي أبو محمد: وكثر المفسرون في قصص هذه الآية بما لا صحة له ولا تقتضيه ألفاظ القرآن وفي معانيه بعد فاختصرته لذلك.

.تفسير الآيات (15- 17):

{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)}
هذا مثل لقريش بقوم أنعم الله عليهم وأرسل إليهم الرسل فكفروا وعصوا، فانتقم الله منهم، أي فأنتم أيها القوم مثلهم و{سبأ} هنا أراد به القبيل، واختلف لم سمي القبيل بذلك، فقالت فرقة هو اسم لامرأة كانت أماً للقبيل، وقال الحسن بن أبي الحسن في كتاب الرماني هو اسم موضع فسمي القبيل به وقال الجمهور هو اسم رجل هو أبو القبيل كله قيل هو ابن يشجب بن يعرب، وروي في هذا القول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله فروة بن مسيك عن {سبأ} فقال: هو اسم رجل منه تناسلت قبائل اليمن.
وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر وشيبة والأعرج {لسبإ} بهمزة منونة مكسورة على معنى الحي، وقرأ أبو عمرو والحسن {لسبأ} بهمزة مفتوحة غير مصروف على معنى القبيلة، وقرأ جمهور القراء {في مساكنهم} لأن كل أحد له مسكن، وقرأ الكسائي وحده {في مسكِنهم} بكسر الكاف أي في موضع سكناهم وهي قراءة الأعمش وعلقمة، قال أبو علي والفتح حسن أيضاً لكن هذا كما قالوا مسجد وإن كان سيبويه يرى هذا اسم البيت وليس موضع السجود. قال هي لغة الناس اليوم، والفتح هي لغة الحجاز وهي اليوم قليلة، وقرأ حمزة وحفص {مسكَنهم} بفتح الكاف على المصدر وهو اسم جنس يراد به الجمع، وهي قراءة إبراهيم النخعي وهذا الإفراد هو كما قال الشاعر: [الوافر]
كلوا في بعض بطنكم تعفوا

وكما قال الآخر: [البسيط]
قد عض أعناقهم جلد الجواميس

و{آية} معناها عبرة وعلامة على فضل الله وقدرته، و{جنتان} ابتداء وخبره في قوله عن {يمين وشمال} أو خبر ابتداء تقديره هي جنتان، وهي جملة بمعنى هذه حالهم والبدل من {آية} ضعيف، وقد قاله مكي وغيره، وقرأ ابن أبي عبلة {آية جنتين} بالنصب، وروي أنه كان في ناحية اليمن واد عظيم بين جبلين وكانت جنتا الوادي منبت فواكه وزروع وكان قد بني في رأس الوادي عند أول الجبلين جسر عظيم من حجارة من الجبل إلى الجبل فارتدع الماء فيه وصار بحيرة عظيمة، وأخذ الماء من جنبتيها فمشى مرتفعاً يسقي جنات جنتي الوادي، قيل بنته بلقيس، وقيل بناه حمير أبو القبائل اليمينة كلها، وكانوا بهذه الحال في أرغد نعم، وكانت لهم بعد ذلك قرى ظاهرة متصلة من اليمن إلى الشام، وكانوا أرباب تلك البلاد في ذلك الزمان، وقوله: {كلوا} فيه حذف كأنه قال قيل لهم كلوا، و{طيبة} معناه كريمة التربة حسنة الهواء رغدة من النعم سليمة من الهوام والمضار هذه عبارات المفسرين، وكان ذلك الوادي فيما روي عن عبد الرحمن بن عوف لا يدخله برغوث لا قملة ولا بعوضة ولا عقرب ولا شيء من الحيوان الضار، وإذا جاء به أحد من سفر سقط عند أول الوادي، وروي أن الماشي بمكتل فوق رأسه بين أشجاره يمتلي مكتله دون أن يمد يداً، وروي أن هذه المقالة من الأمر بالأكل والشرب والتوقيف على طيب البلدة وغفران الرب مع الإيمان به هو من قيل الأنبياء لهم، وقرأ رؤيس عن يعقوب {بلدةً طيبةً ورباً غفوراً} بالنصب في الكل، وبعث إليهم فيما روي ثلاثة عشر نبياً فكفروا بهم وأعرضوا، فبعث الله تعالى على ذلك السد جرداً أعمى توالد فيه وخرقه شيئاً بعد شيء وأرسل سيلاً في ذلك الوادي، فيحتمل ذلك السد، فيروى أنه كان من العظم وكثرة الماء بحث ملأ ما بين الجبلين، وحمل الجنات وكثيراً من الناس ممن لم يمكنه الفرار، ويروى أنه لما خرق السد كان ذلك سبب يبس الجنات، فهلكت بهذا الوجه، وروي أنه صرف الماء من موضعه الذي كان فيه أولاً فتعطل سقي الجنات، واختلف الناس في لفظة {العرم} فقال المغيرة بن حكيم وأبو ميسرة: {العرم} في لغة اليمن: جمع عرمة: وهو كل ما بني أو سنم ليمسك الماء ويقال ذلك بلغة أهل الحجاز المسناة.
قال الفقيه الإمام القاضي: كأنها الجسور والسداد ونحوها، ومن هذا المعنى قول الأعشى:
وفي ذلك للمتأسي أسوة ومآرب ** عفا عليها العرم

رخام بناه لهم حمير ** إذا جاءه موارة لم يرم

ومنه قول الآخر:
ومن سبأ الحاضرين مأرب إذ ** يبنون من دون سيله العرما

وقال ابن عباس وقتادة الضحاك {العرم} اسم وادي ذلك الماء بعينه الذي كان السد بني له، وقال ابن عباس أيضاً إن سيل ذلك الوادي أبداً يصل إلى مكة وينتفع به، وقال ابن عباس أيضاً {العرم} الشديد.
قال الفقيه الإمام القاضي: فكأنه صفة للسيل من العرامة، والإضافة إلى الصفة مبالغة وهي كثيرة في كلام العرب، وقالت فرقة {العرم} اسم الجرذ.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا ضعيف، وقيل {العرم} اسم المطر الشديد الذي كان عنه ذلك السيل، وقوله: {وبدلناهم بجنتيهم جنتين} قول فيه تجوز واستعارة وذلك أن البدل من الخمط والأثل لم يكن جنات، لكن هذا كما تقول لمن جرد ثوباً جيداً وضرب ظهره هذا الضرب ثوب صالح لك ونحو هذا، وقوله: {ذواتي} تثنية ذات، والخمط شجر الأراك قاله ابن عباس وغيره، وقيل الخمط كل شجر له شوك وثمرته كريهة الطعم بمرارة أو حمضة أو نحوه، ومنه تخمط اللبن إذا تغير طعمه، والأثل ضرب من الطرفاء هذا هو الصحيح، وكذا قال أبو حنيفة في كتاب النبات، قال الطبري وقيل هو شجر شبيه بالطرفاء وقيل إنه السمر، والسدر معروف وهو له نبق شبه العناب لكنه في الطعم دونه بكثير، وللخمط ثمر غث هو البريد، وللأثل ثم قليل الغناء غير حسن الطعم، وقرأ ابن كثير ونافع {أكْل} بضم الهمزة وسكون الكاف، وقرأ الباقون بضم الهمزة وضم الكاف، وروي أيضاً عن أبي عمرو سكون الكاف وهما بمعنى الجنى والثمر، ومنه قوله تعالى: {تؤتي أكلها كل حين} [إبراهيم: 25] أي جناها، وقرأ جمهور القراء بتنوين {أكل} وصفته بخمط وما بعده، قال أبو علي: البدل هذا لا يحسن لأن الخمط ليس بالأكل والأكل ليس بالمخمط نفسه والصفة أيضاً كذلك، لأن الخمط اسم لا صفة وأحسن ما فيه عطف البيان، كأنه بين أن الأكل هذه الشجرة ومنها ويحسن قراءة الجمهور أن هذا الاسم قد جاء بمجيء الصفات في قول الهذلي [الطويل]
عقار كماء الني ليس بخمطة ** ولا خلة يكوي الشروب شبابها

وقرأ أبو عمرو بإضافة {أكلِ} إلى {خمطٍ} وبضم كاف {أكلُ خمطٍ}، ورجع أبو علي قراءة الإضافة وقوله: {ذلك} إشارة إلى ما أجراه عليهم، وقوله: {وهل يجازي} أي يناقش ويقارض بمثل فعل قدراً لأن جزاء المؤمنين إنما هو بتفضيل وتضعيف، وأما الذي لا يزاد ولا ينقص فهو {الكفور} قاله الحسن بن أبي الحسن، وقال طاوس هي المناقشة، وكذلك إن كان المؤمن إذ ذنوب فقد يغفر له ولا يجازى، والكافر يجازي ولا بد، وقد قال عليه السلام «من نوقش الحساب عذب»، وقرأ جمهور القراء {يجازَى} بالياء وفتح الزاي، وقرأ حمزة والكسائي {نجازي} بالنون وكسر الزاي، {الكفورَ} بالنصب، وقرأ مسلم بن جندب {وهل يجزي} وحكى عنه أبو عمرو الداني أنه قرأ {وهل يُجزي} بضم الياء وكسر الزاي، قال الزجاج يقال جزيت في الخير وجازيت في الشر.
قال الفقيه الإمام القاضي: فترجح هذه قراءة الجمهور.